كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وظاهر الجمع المذكور يقتضي أن يكون المراد به العقلاء، وعن بعضهم أنه جمع أعجم مرادًا به ما لا يعقل من الدواب العجم وجمع جمع العقلاء لأنه وصف بالتنزيل عليه وبالقراءة في قوله تعالى: {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} فإن الظاهر رجوع ضمير الفاعل إلى بعض الأعجمين وهما من صفات العقلاء، والمراد بيان فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة كأنه قيل: ولو نزلناه بهذا النظم الرائق المعجز على من لا يقدر على التكلم بالعربية أو على ما ليس من شأنه التكلم أصلًا من الحيوانات العجم {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} قراءة صحيحة خارقة للعادة {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء، وقيل: المراد بالأعجمين جمع أعجم أعم من أن يكون عاقلًا أو غيره، ونقل ذلك الطبرسي عن عبد الله بن مطعي، وذكر أنه روى عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية وهو على بعير فأشار إليه وقال: هذا من الأعجمين.
والطبري على ما في البحر يروي نحو هذا عن ابن مطيع، والمراد أيضًا بيان فرط عنادهم، وقيل: هو جمع أعجم مرادًا به ما لا يعقل وضمير الفاعل في {قرأه} للنبي صلى الله عليه وسلم وضمير {سَوَاء عَلَيْهِمْ} لبعض الأعجمين وكذا ضمير {كَانُواْ} والمعنى لو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم فقرأه محمد صلى الله عليه وسلم على أولئك البهائم ما كانوا أي أولئك البهائم مؤمنين به فكذلك هؤلاء لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا، ولا يخفى ما فيه، وقيل: المراد ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين لعدم فهمهم ما فيه، وأخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وهو بعيد عما يقتضيه مقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد واستند بعضهم بالآية عليه في منع أخذ العربية في مفهوم القرآن إذ لا يتصور على تقدير أخذها فيه تنزيله بلغة العجم إذ يستلزم ذلك كون الشيء الواحد عربيًا وعجميًا وهو محال.
وأجيب بأن ضمير {نزلناه} [الشعراء: 198] ليس راجعًا إلى القرآن المخصوص المأخوذ في مفهومه العربية بل إلى مطلق القرآن ويراد منه ما يقرأ أعم من أن يكون عربيًا أو غيره، وهذا نحو رجوع الضمير للعام في ضمن الخاص في قوله تعالى: {مَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] الآية فإن ضمير عمره راجع إلى شخص بدون وصفه بمعمر إذ لا يتصور نقص عمر المعمر كما لا يخفى.
وقال بعضهم في الجواب: إن الكلام على حذف مضاف، والمراد {وَلَوْ نَزَّلْنَا} معناه بلغة العجم على بعض الأعجمين فتدبر؛ وفي لفظ {بَعْضُ} على كل الأقوال إشارة إلى كون ذلك المفروض تنزيله عليه واحدًا من عرض تلك الطائفة كائنًا من كان و{بِهِ} متعلق بمؤمنين، ولعل تقديمه عليه للاهتمام وتوافق رؤس الآي.
والضمير في قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} على ما يقتضيه انتظام الضمائر السابقة واللاحقة في سلك واحد للقرآن وإليه ذهب الرماني وغيره، والمعنى على ما قيل مثل ذلك السلك البديع المذكور سلكناه أي أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين ففهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه خارج عن القوى البشرية وقد انضم إليه علم أهل الكتابين بشأنه وبشارة الكتب المنزلة بإنزاله فقوله تعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)}.
{حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} الملجىء إلى الايمان به وحينئذ لا ينفعهم ذلك.
والمراد بالمجرمين المشركون الذين عادت عليهم الضمائر من {لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَكَانُواْ} وعدل عن ضميرهم إلى ما ذكر تأكيدًا لذمهم، وقال الزمخشري في معنى ذلك: أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها فكيف ما فعل بهم وصنع، وعلى أي وجه دبر أرهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره كما قال سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا في قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7] موقع قوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الخ مما قبله موقع الموضح والملخص لأنه مسوق لثباته مكذبًا مجحودًا في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد.
ويجوز أن يكون حالًا أي سلكناه فيها غير مؤمن به. اهـ.
وتعقب بأن الأول هو الأنسب بمقام بيان غاية عنادهم ومكابرتهم مع تعاضد أدلة الإيمان وتناجد مبادىء الهداية والإرشاد وانقطاع أعذارهم بالكلية، وقد يقال: إن هذا التفسير أوفق بتسليته صلى الله عليه وسلم التي هي كالمبنى لهذه السورة الكريمة وبها صدرت حيث قال سبحانه: {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] كأنه جل وعلا بعد أن ذكر فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة وهو تفسير واضح في نفسه فهو عندي أولى مما تقدم.
وفي المطلع أن الضمير للتكذيب والكفر المدلول عليه بقوله تعالى: {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 199] وبه قال يحيى بن سلام، وروي عن ابن عباس.
والحسن، والمعنى كذلك سلكنا التكذيب بالقرآن والكفر به في قلوب مشركي مكة ومكناه فيها، وقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ} الخ واقع موقع الإيضاح لذلك ولا يظهر على هذا الوجه كونه حالًا ولا أرى لهذا المعنى كثرة بعد عن قول من قال أي على مثل هذا السلك سلكنا القرآن وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه في قلوبهم، وحاصل الأول كذلك سلكنا التكذيب القرآن في قلوبهم.
وحاصل هذا وكذلك سلكنا القرآن بصفة التكذيب به في قلوبهم فتأمل، وجوز جعل الضمير للبرهان الدال عليه قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إسرائيل} [الشعراء: 197] وهو بعيد لفظًا ومعنى، هذا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمجرمين غير الكفرة المتقدمين الذين عادت عليهم الضمائر وهم مشركو مكة من المعاصرين لهم وممن يأتي بعدهم وذلك إشارة إلى السلك في قلوب أولئك المشركين أي مثل ذلك السلك في قلوب مشركي مكة سلكناه في قلوب المجرمين غيرهم لاشتراكهم في الوصف، وقوله سبحانه: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الخ بيان لحال المشركين المتقدمين الذين اعتبروا في جانب المشبه به أو إيضاح لحال المجرمين وبيان لما يقتضيه التشبيه وهو كما ترى؛ ونقل في البحر عن ابن عطية أنه أريد مجرمي كل أمة أي إن سنة الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم، وهذا على جهة المثال لقريش أي هؤلاء كذلك، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر انتهى، وكأنه جعل ضمير {سَلَكْنَاهُ} [الشعراء: 200] لمطلق الكفر لا للكفر بالقرآن، وضمير {بِهِ} لله تعالى أو لما أمروا بالإيمان به للقرآن وإلا فلا يكاد يتسنى ذلك، وعلى كل حال لا ينبغي أن يعول عليه.
{فَيَأْتِيَهُم} أي العذاب {بَغْتَةً} أي فجأة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي بإتيانه.
{فَيَقُولُواْ} أي تحسرًا على ما فات من الإيمان وتمنيًا للإمهال لتلافي ما فرطوه {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي مؤخرون، والفاء في الموضعين عاطفة وهي كما يدل عليه كلام الكشاف للتعقيب الرتبي دون الوجودي كأنه قيل: حتى يكون رؤيتهم للعذاب الأليم فما هو أشد منها وهو مفاجأته فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة نظير ما في قولك إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله تعالى، فلا يرد أن البغث من غير شعور لا يصح تعقبه للرؤية في الوجود، وقال سربى الدين المصري عليه الرحمة في توجيه ما تدل عليه الفاء من التعقيب: إن رؤية العذاب تكون تارة بعد تقدم أماراته وظهور مقدماته ومشاهدة علاماته وأخرى بغتة لا يتقدمها شيء من ذلك فكانت رؤيتهم العذاب محتاجة إلى التفسير فعطف عليها بالفاء التفسيرية قوله تعالى: {يَأْتِيهِمُ بَغْتَةً} [الشعراء: 202] وصح بينهما معنى التعقيب لأن مرتبة المفسر في الذكر أن يقع بعد المفسر كما فعل في التفصيل بالقياس إلى الإجمال كما يستفاد من تحقيقات الشريف في شرح المفتاح.
ويمكن أن تكون الآية من باب القلب كما هو أحد الوجوه في قوله تعالى: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] للمبالغة في مفاجأة رؤيتهم العذاب حتى كأنهم رأوه قبل المفاجأة والمعنى حتى يأتيهم العذاب الأليم بغتة فيروه. انتهى.
وجعلها بعضهم للتفصيل، واعترض على ما قال صاحب الكشاف بأن العذاب الأليم منطو على شدة البغت فلا يصح الترتيب والتعقيب الرتبي وهو وهم كما لا يخفى.
والظاهر أن جملة {وهم لا يشعرون} [الشعراء: 202] حال مؤكدة لما يفيده {بغتة} فإنها كما قال الراغب مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب.
ثم إن هذه الرؤية وما بعدها إن كانت في الدنيا كما قيل فإتيان العذاب الأليم فيها بغتة مما لا خفاء فيه لأنه قد يفاجئهم فيها ما لم يكن يمر بخاطرهم على حين غفلة.
وإن كانت في الآخرة فوجه إتيانه فيها بغتة على ما زعمه بعضهم أن المراد به أن يأتيهم من غير استعداد له وانتظار فافهم، واختار بعضهم أن ذلك أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة.
وقرأ الحسن وعيسى {تَأْتِيَهُمُ} بتاء التأنيث، وخرج ذلك الزمخشري على أن الضمير للساعة وأبو حيان عن أنه للعذاب بتأويل العقوبة، وقال أبو الفضل الرازي: للعذاب وأنث لاشتماله على الساعة فاكتسى منها التأنيث وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيبًا بها انتهى وهو في غاية الغرابة وكأنه اعتبر إضافة العذاب إلى الساعة معنى بناءً على أن المراد بزعمه حتى يروا عذاب الساعة الأليم، وقال: باكتسائه التأنيث منها بسبب إضافته إليها لأن الإضافة إلى المؤنث قد تكسي المضاف المذكر التأنيث كما في قوله:
كما شرقت صدر القناة من الدم

ولم أر أحدًا سبقه إلى ذلك.
وقرأ الحسن {بَغْتَةً} بالتحريك، وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه {الله بَغْتَةً}.
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أي يطلبونه قبل أوانه وذلك قولهم: {أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32].
وقولهم: {فائتنا بما تعدنا} [الأعراف: 70] ونحوهما.
{أَفَرَأَيْتَ} أي فأخبر {إِن متعناهم سِنِينَ} أي مدة من الزمان بطول الأعمار وطيب المعاش أو عمر الدنيا على ما روي عن عكرمة وعبر عن ذلك بما ذكر إشارة إلى قلته.
{ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي الذين كانوا يوعدونه من العذاب.
{مَا أغنى عَنْهُمْ} أي أي شيء أو أي غناء أغنى عنهم {مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} أي كونهم ممتعين ذلك التمتيع المديد على أن ما مصدرية كما هو الأولى أو الذي كانوا يمتعونه من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها وأيًا ما كان فالاستفهام للنفي والإنكار.
وقيل: ما نافية أي لم يغن عنهم ذلك في دفع العذاب أو تخفيفه، والأول أولى لكونه أوفق لصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغناء على أبلغ وجه وآكده وفي ربط النظم الكريم ثلاثة أوجه كما في الكشاف:
الأول: أن قوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ} [الشعراء: 205] الخ متصل بقوله تعالى: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} [الشعراء: 203] وقوله جل وعلا: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء: 204] معترض للتبكيت وإنكار أن يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها، والمعنى على هذا كما في الكشف أنه لما ذكر أنهم لا يؤمنون دون مشاهدة العذاب قال سبحانه: إن هذا العذاب الموعود وإن تأخر أيامًا قلائل فهو لاحق بهم لا محالة وهنالك لا ينفعهم ما كانوا فيه من الاغترار المثمر لعدم الإيمان، وأصل النظم الكريم لا يؤمنون حتى يروا العذاب وكيت وكيت فإن متعناهم سنين ثم جاءهم هذا العذاب الموعود فأي شيء أو فأي غناء يغني عنهم تمتيعهم تلك الأيام القلائل فجىء بفعل الرؤية والاستفهام ليكون في معنى أخبر إفادة لمعنى التعجب والإنكار وأن من حق هذه القصة أن يخبر بها كل أحد حتى يتعجب.
ووسط {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء: 204] للتبكيت والهمزة فيه للإنكار، وجىء بالفاء دلالة على ترتبه على السابق كأنه لما وصف العذاب قيل: أيستعجل هذا العذاب عاقل.
وفي الإرشاد اختيار أن قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ} [الشعراء: 105] متصل بقوله سبحانه: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} [الشعراء: 203] وجعل الفاء لترتيب الاستخبار على ذلك القول وهي متقدمة على الهمزة معنى وتأخيرها عنها صورة لاقتضاء الهمزة الصدارة وإن {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء: 204] معترض للتوبيخ والتبكيت وجعل الفاء فيه للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون الخ، وصاحب الكشف بعد أن قرر كما ذكرنا قال: إن العطف على مقدر في هذا الوجه لا وجه له، ولعل المنصف يقول: لكل وجهة.
والثاني: أن قوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} كلام يوبخون به يوم القيامة عند قولهم فيه {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} حكى لنا لطفًا {ويستعجلون} عليه في معنى استعجلتم إذ كذلك يقال لهم ذلك اليوم، وكأن أمر الترتيب أو العطف على مقدر، وارتباط {اتقى أَفَرَأَيْتَ} الخ بقولهم: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} على نحو ما تقدم في الوجه السابق.
والثالث: أن قوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} متصل بما بعده غير مترتب على ما قبله وذلك أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة.
وأمن فقال عز وجل: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أشرًا وبطرًا واستهزاءً واتكالًا على الأمل الطويل ثم قال سبحانه: هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم.
وعلى هذا يكون {فبعذابنا} الخ عطفًا على مقدر بلا خلاف نحو أيستهزؤن {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}.
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ} الخ تعجبًا من حالهم مترتبًا على الاستهزاء والاستعجال، والكلام نظير ما تقول لمخاطبك: هل تغتر بكثرة العشائر والأموال فأحسب أنها بلغت فوق ما تؤمل أليس بعده الموت وتركهما على حسرة.
وهذا الوجه أظهر من الوجه الذي قبله، وأيًا ما كان فقوله سبحانه: {بعذابنا} متعلق بيستعجلون قدم عليه للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه جل جلاله مع ما فيه على ما قيل من رعاية الفواصل.
وقرىء {كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} من الإمتاع وفي الآية موعظة عظيمة لمن له قلب.
روي عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. اهـ.